لعشر الأوائل من ذي الحجة أحب الأيام إلى الله تعالى
د. عبد الناصر جابر الزيود
الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمينَ، الحمد الذي عَزَّ جَاهُهُ، وجَلَّ ثناؤُهُ، وتقدَّسَتْ أسماؤُهُ، الحمد لله الذي بيده الأمر،
فضّل أيام العشر على سائر الأيام وخصها بمزيد من الأجر، وجبر لأهلها الكسر. نحمدُهُ سبحانَهُ وتعالَى علَى جودِهِ وإحسانِهِ، ونسألُهُ الفوزَ بجنَّتِهِ ورضوانِهِ.
نعيش وإياكم بدءا من يوم الجمعة المبارك، آخر موسم من مواسم الخيرات والرحمات أيام تضاعف فيها الحسنات،
وتفتح فيها أبواب الرحمات، وتقال فيها العثرات، يغفر الله فيها للمستغفرين، ويجاب فيها دعاء السائلين.
إنها عشر ذي الحجة، الأيام الفاضلة، التي عظّم الله شأنها ورفع مكانتها وأقسم بها في كتابه العظيم، فقال جل وعلا:
"وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ". فالليالي العشر هي ليالي عشر ذي الحجة، والشفع هو يوم النحر، والوتر هو يوم عرفة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى:
"وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ" هي أيام العشر، أيام عشر ذي الحجة المباركة
الذي جعله الله محلاً لكثير من المواهب والنفحات حتى غدا أفضل مواسم الخيرات.
فطوبى لعبد استقبل هذه الأيامَ بالتوبة الصادقة النصوح، وطوبى لعبدٍ اغتنم مواسم الخيرات بالعمل الصالح،
الذي يقربه إلى ربه ويرفع درجته في الجنة. فإن إدراك عشر ذي الحجة نعمة عظيمة من نعم الله تعالى على العبد،
فيجب علينا استشعار هذه النعم، واغتنام الفرصة، فنخصها بمزيد من العناية ونجاهد أنفسنا على الطاعة، وقد كان هذا حال السلف رحمهم الله تعالى.
يروى أن سعيد بن جبير رحمه الله تعالى:
كان إذا دخلت العشر من ذي الحجة اجتهد اجتهاداً حتى ما يقدر عليه وكان يقول:
لا تطفئوا سرجكم فيها. أي في عشر ذي الحجة.
ولتعلموا يا عباد الله أن لهذه الأيام العشر من ذي الحجة فضائل لم تمنح لغيرها من سائر الأيام:
فمن فضائل العشر من ذي الحجة: أن الله أتمَّ فيها النعمة على المسلمين، وكان ذلك
بقوله تعالى:
"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا".
ففي إحدى هذه الأيام العشر من ذي الحجة في يوم عرفة نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال رجل من اليهود لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر: أي آية؟
قال:"الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسْلاَمَ دِيناً".
فقال عمر: إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية والمكان الذي نزلت فيه، أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم الجمعة.
ومن فضائل هذه الأيام العشر:
أن العبادات تجتمع فيها ولا تجتمع في غيرها من الأيام، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها،
وفيها الزكاة والصَّدقات، وفيها الصوم لمَنْ أراد التطوع أو لم يجد الهَدْي، وفيها الحجُّ إلى البيت الحرام ولا يكون في غيرها،
وفيها الذِّكْر والتَّلْبية والدعاء الذي تدلُّ على التوحيد. واجتماع هذه العبادات كلها في هذه الايام شرفٌ لها لا يضاهيها فيه غيرها من الأيام ولا يساويها سواها.
ومن فضائلها أيضا: أنها أفضل أيام الدُّنيا على الإطلاق، بدقائقها وساعاتها وأيامها، فهي أحبُّ الأيام إلى الله تعالى،
والعمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى؛ فهي موسم للرِّبح، وهي طريق للنَّجاة، وهي ميدانُ التسابق إلى الخيرات؛
لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام؛ يعني أيام العَشْر من ذي الحجة.
وقد روي عن أنس بن مالك رضيَ الله عنه أنه قال: كان يُقال في أيام العَشْر:
بكل يوم ألف يوم، ويوم عرفة بعشرة آلاف يوم؛ يعني: في الفضل عن غيره من الأيام.
ومن فضائلها أيضا:
أن فيها يوم عرفة، وهو اليوم التاسع من ذي الحجَّة،وهو يومٌ معروفٌ بالفضل وكثرة الأجر وغفران الذنب؛ فهو يومٌ مجيدٌ، يعرف أهله بالتوحيد؛ إذ يقولون:
لا إله إلا الله،وقد قال صلَّى الله عليه وسلَّم:وخير ما قلتُ أنا والنبيُّون قبلي: لا إله إلا الله.
ويوم عرفة هو يوم الحجِّ الأعظم؛ وصومه تطوُّعًا يكفِّر ذنوب سنتين:
سنة ماضية وسنة مقبِلة، وما علمنا هذا الفضل لغيره من الأيام؛ فكأنه حفظ للماضي وحفظ للمستقبل.
ومن فضائل هذه الأيام أيضا:
أنَّ فيها يوم النَّحر، وهو اليوم العاشر من ذي الحجَّة، وهو أفضل الأيام كما في الحديث:
أفضل الأيام يوم النَّحْر، وفيه معظم أعمال النُّسُك:
من رمي الجمرة، وحَلْق الرَّأس، وذبح الهَدْي، والطَّواف والسَّعي، وصلاة العيد، وذبح الأُضحية، واجتماع المسلمين في صلاة العيد، وتهنئة بعضهم بعضًا.
ففضائل العَشْر من ذي الحجة كثيرةٌ؛ لا ينبغي للمسلم أن يضيِّعها؛ بل ينبغي أن يغتنمها، وأن يسابِق إلى الخيرات فيها، وأن يشغلها بالعمل الصَّالح والأعمال المشروعة.
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة: ذكر الله تعالى؛
يقول تعالى:"لِيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللَّهِ في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ".
فأكثروا في هذه الايام القادمة من التَّهليل والتَّكبير والتَّحميد.
ومن الواجب ايضا الإكثار من قراءة القرآن في هذه الأيام فإنه أفضل الذِّكر، وليعلم المسلم بأن الذِّكْر لله هو أحبُّ الكلام إلى الله تعالى،
وهو سبب النَّجاة في الدُّنيا والآخِرة، وهو سبب الفلاح، وحفظٌ لصاحبه من الكفر ومن الشيطان ومن النار
ويصلِّي الله وملائكته على الذِّاكراين، وهو خير الأعمال وأزكاها وأرفعها في الدَّرجات.
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة:
الإكثار من نوافل الصلوات بعد الفرائض، فالمحافظة على النوافل سببٌ من أسباب محبَّة الله،
ومَنْ نال محبَّة الله حفظه وأجاب دعاءه، وأعاذه ورفع مقامه؛ لأنها تكمل النَّقص وتجبر الكسر وتسدُّ الخََلَل.
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة أيضاً:
الإكثار من الصدقة؛ لان العبد بالصَّدقة ينال البرَّ، ويضاعَف له الأجر، ويُظلُّه الله في ظلِّه يوم القيامة يوم لا ظل إلا ظله،
ويفتح بها أي الصدقات أبواب الخير، ويغلق بها أبواب الشرِّ، والمتصدق يحبَّه الله ويحبَّه الخَلْق، ويكون بها رحيمًا رفيقًا،
ويزكي ماله ونفسه، ويغفر ذنبه، ويتحرَّر من عبودية الدِّرهم والدِّينار، ويحفظه الله في نفسه وماله وولده ودنياه وآخِرته.
ومن الأعمال المشروعة في هذه الأيام المباركة أيضا:
الإكثار من الصيام في أيام العَشْر،ولو صام التسعة الأيام منها لكان ذلك مشروعًا؛ وأكد هذه الأيام وأفضلها صياما هو يوم عرفةَ،
فيشرع صيامه لغير الحاج، فقد سُئِل النبي عليه الصلاة والسلام عن صومه فقال: يكفر السنة الماضية والباقية.
ومما يشرع في هذه الأيام المباركة: ذبح الأضاحي، والأضحية عند جمهور الفقهاء سنة مؤكدة،
ولا ينبغي للقادر على الأضحية ترك الأضحية. وسيكون لنا في وقفة مع الأضحية وأحكامها إن شاء الله تعالى.
فينبغي للمسلم أن يسابق في هذه الأيام العَشْر بكل عمل صالح، ويُكْثِر من الدُّعاء والاستغفار،
ويتقرَّب إلى الله بكل قُرَبة مشروعة لنيل رضا الله وكسب الأجر والثواب والحسنات التي يدخرها لنفسه ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.
فلنتق الله، ولنبادر أعماركنا بخير أعمالنا، وإياكم أن تشغلكم الدنيا عن طاعة ربكم، فإن ذلك هو الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ".
يقول ابن القيم رحمه الله: الناسُ منذ خُلِقوا لم يزالوا مسافرين، وليسَ لهم حَطٌّ عن رحالهم إلا في الجنة أو النار.
فاغتنِموا مواسمَ العبادة قبل فواتها، فالحياةُ مغنم، والأيام معدودة، والأعمارُ قصيرة